التسفيل الرقمي: كيف تتحول منصاتنا المفضلة إلى "كومة من القمامة"؟
تدهور المنصات الرقمية: فهم ظاهرة "التسفيل" (Enshittification) التي صاغها كوري دوكتور
يشهد العديد من المنصات والخدمات الرقمية التي كانت تحظى بشعبية واسعة تراجعًا ملحوظًا في الجودة، وهي ظاهرة تعرف عالميًا بـ "التسفيل" (Enshittification). هذا المصطلح، الذي صاغه الكاتب والناشط الكندي الأمريكي كوري دوكتورو في نوفمبر 2022، يُطلق على نمط تدريجي لتدهور المنصات الرقمية. يبدأ هذا النمط بتقديم خدمة ممتازة للمستخدمين لجذبهم، ثم يقوم بحبسهم ضمن نظامها البيئي من خلال زيادة تكاليف الانتقال وصعوبة التبديل إلى بدائل أخرى. بعد ذلك، تتجه المنصة نحو تقليل جودة الخدمة للمستخدمين بهدف استخلاص أقصى قيمة منهم، وتُستخدم هذه القيمة لجذب الشركاء التجاريين مثل المعلنين والبائعين والمبدعين. وبمجرد تأمين ولاء هؤلاء الشركاء، تبدأ المنصة في تدهور جودة الخدمة المقدمة لهم أيضًا، مما يحول المنصة في النهاية إلى بيئة رقمية متدهورة وغير فعالة.

يتجلى هذا التدهور بوضوح في منصات عملاقة مثل جوجل وفيسبوك وأوبر وأمازون. لا تقتصر الأسباب الكامنة وراء هذه الظاهرة على الجشع أو البحث عن رأس المال المغامر فحسب، بل تمتد لتشمل التغيرات في القيود المفروضة على الشركات. وتشمل هذه التغيرات خاصةً مستوى المنافسة والبيئة القانونية التي تسمح للمنصات بتعديل تجربة المستخدم لكل فرد، بينما تمنع المستخدمين والمنافسين من اتخاذ إجراءات مضادة.

لقد بدأ هذا التدهور في جودة الخدمات بشكل تدريجي على مر السنين. فعلى سبيل المثال، في عام 2019، كشفت سجلات قضية الاحتكار المرفوعة ضد جوجل عن صراع داخلي. كانت جوجل، التي تهيمن على 90% من حصة سوق البحث، تواجه تباطؤًا في النمو. وقد اقترح أحد المديرين التنفيذيين استراتيجية لـ خفض جودة نتائج البحث لجعل المستخدمين يجرون استعلامات متعددة، وبالتالي رؤية المزيد من الإعلانات. هذا يمثل جوهر ظاهرة "التسفيل"، ورغم ذلك، استمر المستخدمون في الاعتماد على جوجل لـ عدم وجود بدائل قوية.
يستمر المستخدمون في استخدام هذه المنتجات حتى بعد تدهورها بسبب صعوبة الانتقال إلى بدائل أخرى عندما لا تكون هناك بدائل حقيقية ومنافسة. هذا الوضع يغذيه السياسات المتبعة، حيث تبنت جهات إنفاذ قوانين مكافحة الاحتكار لعقود من الزمن نهج "مدرسة شيكاغو". هذا النهج يرى أن الاحتكارات فعالة ويجب معاقبتها فقط إذا أدت إلى ارتفاع الأسعار للمستهلكين، وليس عندما تستحوذ شركة على منافسها الأكثر خطورة. من الأمثلة الكلاسيكية على ذلك استحواذ فيسبوك على انستغرام، حيث اعترف مارك زوكربيرغ صراحةً بأن شراء انستغرام سيُبقي المستخدمين كعملاء لفيسبوك حتى لو لم يستخدموا فيسبوك نفسه أبدًا. ورغم هذا الاعتراف، وافقت إدارة أوباما على الصفقة.
تعتبر المنصات أرضًا خصبة بشكل خاص لظاهرة "التسفيل" لأنها تعمل كوسيط بين مجموعتين تعتمد كل منهما على الأخرى: المستخدمون النهائيون والعملاء التجاريون. تتمتع المنصات الرقمية بقوة فريدة تتمثل في قدرتها على تغيير منطق العمل على أساس "لكل مستخدم، لكل تفاعل". يسمح هذا التلاعب المستمر بما يراه المستخدم وما يدفعه، بينما يُحظر على المستخدمين والمطورين المستقلين فحص أو تجاوز ما تفعله المنصات.
تتوسع ظاهرة "التسفيل" لتشمل قطاعات أخرى بمجرد تحولها إلى رقمية. فعندما يتم رقمنة قطاع ما، فإنه يتحول إلى منصة، ويتبعه التلاعب. هذا ما يؤدي إلى أسعار "ديناميكية" في قطاع الوجبات السريعة أو "أسعار الذروة" في خدمات سيارات الأجرة.
أمثلة بارزة على "التسفيل" في المنصات الكبرى
فيسبوك: مسار التسفيل
جذب المستخدمين: خلاصات زمنية جذابة، بدون إعلانات.
حبس المستخدمين: زيادة تكاليف الانتقال وصعوبة التبديل.
تقليل الجودة: تلاعب بالخلاصات لإرضاء المعلنين، زيادة المحتوى المدفوع.
تدهور للمعلنين: دقة إعلانات أقل، أسعار أعلى، فعالية متدنية.
أمازون: مسار التسفيل
قاعدة عملاء ضخمة: جذب المتسوقين بخدمات مثل برايم.
حبس البائعين: يجب أن تتواجد الشركات على المنصة للوصول للعملاء.
"رشوة" الإعلانات: دفع مبالغ لتظهر في أعلى نتائج البحث.
تدهور تجربة المتسوق: أفضل النتائج ليست الأفضل جودة أو سعرًا.
فيسبوك هو أحد الأمثلة البارزة على "التسفيل". في بداياته، اجتذب فيسبوك المستخدمين بوعود خلاصة زمنية عكسية من الأشخاص الذين اختاروهم، بدون مراقبة أو محتوى مدفوع. بمجرد أن تم حبس المستخدمين داخل المنصة، بدأت فيسبوك في التلاعب بالخلاصات لإرضاء العملاء التجاريين، مثل المعلنين والناشرين. ثم جاء الضغط الثاني، حيث انخفضت دقة استهداف الإعلانات وزادت الأسعار. في الوقت نفسه، امتلأت خلاصات المستخدمين بـ المحتوى المدفوع حتى أصبح ما يطلبون رؤيته مجرد بقايا من المحتوى الحقيقي.
أما أمازون، فقد شهدت "تسفيل" من جانب الطلب. في اقتصاد يحركه الاستهلاك ويزداد فيه عدم المساواة، تشتري نسبة متناقصة من الأسر نسبة غير متناسبة من المنتجات، ومعظم هذه الأسر مشتركة في خدمة برايم. هذا يعني أنه إذا كنت تبيع سلعًا، فيجب أن تكون موجودًا على أمازون، ويجب أن تدفع لتظهر في نتائج البحث. أعمال الإعلانات في أمازون ليست "إعلانًا" بالمعنى الكلاسيكي، بل هي "رشوة": ادفع لتوضع في أعلى نتائج البحث. وهذا يعني أن النتيجة الأولى غالبًا ما تكون ليست أفضل سعر أو أفضل جودة، بل هي لمن دفع أكثر، مما يؤثر سلبًا على تجربة المتسوقين.
حلول هيكلية لمواجهة ظاهرة "التسفيل"
جهود مكافحة الاحتكار
تعزيز القوانين والمبادرات لتقليل هيمنة المنصات الكبرى، خاصة في الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة.
قوة العمال والنقابات
التعاون العمالي لضمان حقوق العاملين في قطاع التكنولوجيا ومواجهة التسريحات.
إعادة تشكيل المشهد الرقمي
تفكيك الشركات الاحتكارية واستعادة المنافسة العادلة لجعل الوكالات التنظيمية جديرة بالثقة.
تتطلب هذه المشاكل الهيكلية حلولًا هيكلية فعالة. في الولايات المتحدة، تضاءل التحالف المناهض للاحتكار الذي وحّد لفترة وجيزة أعضاء من الحزبين. ومع ذلك، هناك تفاؤل أكبر بشأن جهود مكافحة الاحتكار الأجنبية، لا سيما في الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة، التي تحفزها الرغبة في تقليل اعتمادها على المنصات الأمريكية.
كما أن قوة العمال في تزايد مستمر. يدرك عمال التكنولوجيا بشكل متزايد أنهم عمال، وليسوا مجرد "مؤسسين قيد الانتظار". في ظل تسريح مئات الآلاف من العمال، وتلويح الإدارة بـ الذكاء الاصطناعي كطريقة لجعل العمال يشعرون بأنهم قابلون للاستبدال، تبرز النقابات كحل أساسي لضمان حقوقهم.
بالإضافة إلى ذلك، فإن "التسفيل" يؤثر على المشهد السياسي ويولد حالة من الصدمة والعدمية. عندما يكون هناك عدد قليل من الشركات الكبرى، فإنها غالبًا ما تتفق على نفس النهج، بينما عندما يكون هناك المئات من الشركات المتنافسة، تسمع الجهات التنظيمية مطالب متضاربة، مما يقلل من فعاليتها. يؤدي هذا إلى فشل الجهات التنظيمية، ويؤدي الفشل بدوره إلى الصدمة، وتجعل الصدمة الناس عرضة للاستغلال من قبل المحتالين. الحل ليس في "استعادة الثقة" في الوكالات القائمة، بل في "جعل الوكالات جديرة بالثقة"، والطريقة الوحيدة لتحقيق ذلك هي تفكيك الشركات التي استحوذت على السلطة واستعادة المنافسة الصحية والعادلة.
إننا نقترب من نقطة تحول حاسمة حيث سيعود التوازن نحو المستهلكين والعقلانية. لا يمكن أن يستمر استخراج القيمة إلى ما لا نهاية. ما سيأتي بعد ذلك هو أمر غير مؤكد، فـ المستقبل ليس مجرد مكان نكتشفه، بل هو مكان نصنعه بأيدينا. يكمن الأمل في ربط النقاط بين نتائج البحث السيئة، والسيارات المقفلة، وأسعار الأدوية المرتفعة، وسلاسل التوريد الهشة، والخلاصات المستقطبة، لـ بناء تحالف قوي بما يكفي لـ تغيير القواعد وإعادة تشكيل المشهد الرقمي نحو الأفضل.
 
 
