سد النهضة وفيضانات السودان: هل يهدد الأمن المائي المصري؟
سد النهضة وفيضانات السودان: هل تهدد مصر؟
شهدت الخرطوم والسودان عمومًا فيضانات غير مسبوقة خلال أكتوبر 2025، طالت مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية والمناطق السكنية. تزامنت هذه الفيضانات الكارثية مع الجدل المستمر حول مشروع سد النهضة الإثيوبي، مما أثار تساؤلات ملحة حول مدى ارتباطها بملء السد وتشغيله، وإمكانية أن تكون مصر مهددة بتداعيات مماثلة. يسعى هذا المقال إلى تحليل الوضع الراهن، وعرض آراء الخبراء، وتقييم المخاطر المحتملة على الأمن المائي الإقليمي في ظل تحديات سد النهضة.
نبذة عن سد النهضة الإثيوبي
الموقع
النيل الأزرق، إثيوبيا
بدء الإنشاء
2011
الغرض الرئيسي
توليد الكهرباء
سعة الخزان
74 مليار م³
عدد التوربينات
13 توربينة
القدرة الكهربائية
5000-6000 ميجاوات
يقع سد النهضة الإثيوبي الكبير (GERD) على مجرى النيل الأزرق تحديدًا في منطقة بنيشنقول-جوموز في إثيوبيا، على بُعد حوالي 30 كيلومترًا من الحدود السودانية. بدأ العمل على إنشائه في عام 2011، ويُصنّف كأضخم مشروع لتوليد الطاقة الكهرومائية في القارة الإفريقية. يهدف السد بشكل رئيسي إلى إنتاج الكهرباء لتلبية احتياجات إثيوبيا المتزايدة من الطاقة وتصدير الفائض. تبلغ سعة خزان سد النهضة حوالي 74 مليار متر مكعب، ويحتوي على 13 توربينة فرنسيس بقدرة إجمالية تتراوح بين 5000 و 6000 ميجاوات. المصدر: ويكيبيديا
الوضع في السودان: فيضانات غير مسبوقة وتأثير سد النهضة
تعرض السودان لفيضانات مدمرة واسعة النطاق، اجتاحت القرى والأحياء السكنية وألحقت دمارًا هائلاً، كما وثّقت كاميرات "العربية" حجم الكارثة. يعزو الخبراء أسباب هذه الفيضانات إلى عوامل متعددة، يأتي في مقدمتها الفتح المفاجئ لبوابات الطوارئ في سد النهضة الإثيوبي في أواخر سبتمبر 2025. ووفقًا للدكتور عباس شراقي، أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية بجامعة القاهرة، فقد اضطرت إثيوبيا لفتح أربع بوابات طوارئ في السد، وذلك خشية انهيار سد الروصيرص السوداني، حيث تجاوزت كمية المياه المنصرفة قدرة استيعاب النهر ومستوى الأمطار المتوقعة. وأوضح شراقي أن عدم تشغيل التوربينات بعد أدى إلى امتلاء خزان سد النهضة بالكامل، مما أجبر إثيوبيا على تصريف المياه بشكل عاجل. لاحقًا، قامت إثيوبيا بخفض كمية المياه المنصرفة، في محاولة لتجنب تفاقم انهيار سد الروصيرص الترابي، وهو ما ساهم في تخفيف حدة تداعيات الأزمة.

الخلاف حول أسباب فيضانات السودان: اتهامات متبادلة بشأن سد النهضة
لماذا تُعتبر الفيضانات "صناعية"؟
-
توقيت غير طبيعي: جاءت الفيضانات في نهاية موسم الأمطار، خلافًا للتوقعات الطبيعية.
-
فتح مفاجئ لبوابات السد: تم دون تنسيق مسبق مع دول المصب، مما فاقم الأزمة.
-
ملء الخزان بالكامل: قبل تشغيل التوربينات، مما أحدث ضغوطًا هائلة على السد.
تزايدت حدة الاتهامات الموجهة إلى إثيوبيا بتحميلها مسؤولية أزمة الفيضانات بسبب ما وُصف بـ "سوء إدارة سد النهضة". في هذا السياق، اتهم الخبير البارز في الموارد المائية والري، إبراهيم دعبس، أديس أبابا بـ "خداع السودان"، ووصف هذه الفيضانات بأنها "صناعية" نظرًا للأسباب التالية:
- توقيتها غير الطبيعي: حيث جاءت في نهاية موسم الأمطار.
- الفتح المفاجئ لبوابات السد: دون تنسيق مسبق مع دول المصب (مصر والسودان).
- ملء خزان السد بالكامل: قبل الانتهاء من تركيب وتشغيل جميع التوربينات، مما تسبب في ضغوط هائلة وغير محسوبة على الهياكل المائية.
من جانبه، أكّد وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي أن غياب التنسيق بشأن تشغيل سد النهضة يعد انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي للمياه، مشيرًا إلى أن المفاوضات وصلت إلى طريق مسدود. كما حذّر من أن فترة جفاف طويلة الأمد (متوقع حدوثها كل 50 عامًا) قد تشكل كارثة حقيقية على كل من مصر والسودان، مؤكدًا أن نهر النيل يخضع لأحكام القانون الدولي التي تفرض التعاون الإقليمي الفعال.
مبادئ القانون الدولي للمياه العابرة للحدود
تستند إدارة الأنهار المشتركة، مثل نهر النيل، إلى مجموعة من المبادئ الأساسية في القانون الدولي للمياه العابرة للحدود، والتي تتضمن ما يلي:
- الاستخدام المنصف والمعقول: يؤكد هذا المبدأ ضرورة أن تستخدم الدول المشاطئة الموارد المائية المشتركة بإنصاف وعقلانية، مع الأخذ في الاعتبار احتياجات جميع الدول المعنية.
- الالتزام بعدم التسبب في ضرر جسيم: يفرض هذا المبدأ على الدول الامتناع عن تنفيذ أي أنشطة على مجاري المياه العابرة للحدود قد تؤدي إلى إلحاق ضرر كبير بالدول الأخرى.
- واجب التعاون: يتطلب من الدول تعزيز التعاون المشترك في إدارة الموارد المائية، ويشمل ذلك تبادل المعلومات الحيوية وإجراء المفاوضات بحسن نية.
- الإخطار المسبق والتشاور: يلزم هذا المبدأ الدول بإخطار الأطراف الأخرى مسبقًا بأي مشاريع أو أنشطة مقترحة قد يكون لها تأثير على موارد المياه المشتركة، وإجراء مشاورات بناءة حولها. المصدر: Opinio Juris
رأي الخبراء: هل تهدد فيضانات سد النهضة مصر؟
على الرغم من حدة أزمة الفيضانات التي ضربت السودان، يرجّح عدد من الخبراء أن مصر ليست مهددة بتعرضها لفيضانات مماثلة، وذلك لعدة أسباب رئيسية:
- القدرة الاستيعابية الهائلة للسد العالي: وفقًا للدكتور عباس شراقي، يتمتع السد العالي في أسوان بقدرة فائقة على التحكم في أي زيادات مفاجئة في منسوب مياه النيل، بفضل سعته التخزينية الضخمة التي تعمل كمنظم طبيعي.
- خطط الطوارئ المصرية الشاملة: تتبنى مصر بروتوكولات وخطط طوارئ متقدمة ودائمة، مصممة للتعامل بفعالية مع أي سيناريوهات مائية متطرفة، سواء كانت فيضانات شديدة أو فترات جفاف ممتدة.
- التدابير الإثيوبية التعديلية اللاحقة: قامت إثيوبيا لاحقًا بخفض كمية المياه المنصرفة من سد النهضة لتجنب انهيار سد الروصيرص الترابي، مما ساعد في تخفيف حدة التداعيات الأولية.

ومع ذلك، يواصل الخبير إبراهيم دعبس التحذير من أن استمرار سوء إدارة سد النهضة قد يؤدي إلى مخاطر جمة وطويلة الأمد، لا سيما إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق قانوني ملزم ينظم تشغيل السد بأسلوب عادل ومنصف لجميع الأطراف.
دور السد العالي في حماية مصر
يُعتبر السد العالي في أسوان، الذي اكتمل بناؤه بين عامي 1960 و 1970، بمثابة خط الدفاع الأول لمصر ضد أي تقلبات أو اضطرابات في تدفق نهر النيل. يُعرف السد العالي بكونه واحدًا من أضخم السدود الركامية على مستوى العالم، وتتكون خلفه بحيرة ناصر الشاسعة. تتركز آلياته الوقائية الرئيسية في الجوانب التالية:
- التحكم الفعال في منسوب المياه: عبر خزانه الهائل الذي تبلغ سعته التخزينية حوالي 169 مليار متر مكعب، مما يوفر مرونة كبيرة في إدارة الموارد المائية.
- التكامل مع محطات توليد الكهرباء: يضمن هذا التكامل الاستفادة القصوى من المياه لتوليد الطاقة الكهرومائية، ويقلل من الهدر المائي.
- التنسيق المستمر مع السودان في إدارة الأزمات: على الرغم من غياب اتفاق ثلاثي شامل حتى الآن مع إثيوبيا، إلا أن هناك تنسيقًا ثنائيًا قائمًا مع السودان لمواجهة التحديات المائية المشتركة. المصدر: Britannica

الخلاصة: تحديات سد النهضة والأمن المائي الإقليمي
تُظهر التحاليل أن مصر تتمتع بحماية نسبية من التعرض لفيضانات مماثلة لتلك التي شهدها السودان، ويعزى الفضل في ذلك إلى كفاءة السد العالي وفعالية خطط الطوارئ المصرية. ومع ذلك، يظل سوء إدارة سد النهضة وغياب التنسيق الإقليمي الفعال يشكلان مصادر قلق رئيسية، لا سيما مع التوقعات بحدوث فترات جفاف حادة في المستقبل القريب. لذا، أصبح التوصل إلى اتفاق قانوني ملزم بين مصر والسودان وإثيوبيا ضرورة قصوى وحتمية لضمان حماية الأمن المائي لجميع دول حوض النيل. إن الشفافية الكاملة في تشغيل السد والالتزام الصارم بالقوانين الدولية ذات الصلة هما مفتاح رئيسي لتجنب تصاعد الأزمات المائية المستقبلية الأكثر حدة.
