الفحوصات الجينية: بين الصحة وتحسين النسل.. هل نحن على مفترق طرق؟
الفحوصات الجينية: بين الوعود الطبية والمخاوف الأخلاقية
أنواع الفحوصات الجينية المتاحة: PGT-A والفحص متعدد الجينات

يُستخدم الفحص الجيني قبل الزرع (PGT-A) منذ التسعينيات للكشف عن حالات الكروموسومات مثل متلازمة داون وتحديد جنس الجنين. أما الفحص متعدد الجينات فهو تقنية أحدث وأكثر تعقيدًا، حيث يقوم بتحليل آلاف الجينات المرتبطة بحالات معقدة مثل سرطان الثدي، والسكري، والأمراض العقلية، وحتى سمات مثل الطول والذكاء. تاريخ تطور التكنولوجيا وتأثيره على المجتمع يظهر جليًا في هذه التطورات.
مخاطر الوعود المضللة والآثار النفسية للفحوصات الجينية
تحاول الشركات المسوّقة لهذه الفحوصات أحيانًا تضخيم فوائدها، كادعاء تقليل خطر الإصابة بمرض السكري من النوع الثاني بنسبة 12%، وهو ما قد يعني في الواقع تأخير ظهور المرض لبضع سنوات وليس الوقاية منه تمامًا. كما أن أداء الفحوصات متعددة الجينات ليس جيدًا بالقدر الكافي في التنبؤ بالحالات النفسية مثل الاكتئاب، ويثير تساؤلات حول ما إذا كان ينبغي السعي للقضاء على المظاهر الخفيفة أو المعتدلة لهذه الحالات، خاصة وأن بعض الصفات مثل القلق قد تكون مرتبطة بالإبداع.
تكمن إحدى المشكلات العلمية الرئيسية في ظاهرة "تعدد النمط الظاهري" (Pleiotropy)، حيث يمكن أن يؤثر جين واحد على أكثر من سمة (نمط ظاهري) بشكل متزامن. فمحاولة اختيار جنين لتقليل خطر الإصابة بحالة معينة قد تؤدي عن غير قصد إلى إزالة سمات إيجابية أخرى أو التأثير على وظائف حيوية مختلفة.
علاوة على ذلك، يمكن أن يؤدي التعامل مع الأطفال كسلع استهلاكية قابلة للاختيار إلى أضرار نفسية بالغة. فإذا اختار الآباء جنينًا بناءً على توقع معدل ذكاء عالٍ، ثم تبين أن الطفل لديه معدل ذكاء منخفض، فقد يشعر الطفل بأنه لم يرتقِ لتوقعات والديه. وينطبق الأمر نفسه على اختيار جنس الجنين، فقد يشعر الطفل بالخيبة إذا لم يتوافق مع التوقعات الجندرية التي وضعها له الوالدان.
اعتبارات أخلاقية واجتماعية حول الفحوصات الجينية
تثير هذه التقنيات مخاوف جدية بشأن تفاقم الفوارق الاجتماعية. فالفحص متعدد الجينات مكلف للغاية، مما قد يؤدي إلى ظهور طبقة اجتماعية جديدة يتمتع فيها الأثرياء بفرصة إنجاب أطفال "محسّنين" جينيًا، مما يوسع الفجوة بين الأغنياء والفقراء.
وحتى لو أصبحت هذه الفحوصات في متناول الجميع مستقبلاً، فقد ينشأ ضغط اجتماعي ضمني لإجراء هذه التعديلات البيولوجية. فرفض اختيار الجنين قد يعني وضع الطفل في وضع غير مواتٍ مهنيًا أو مواجهة إدانة أخلاقية لإنجاب أطفال "غير محسّنين" عندما يكون التحسين ممكنًا. وقد لا تقدم المجتمعات حينها تأمينًا صحيًا أو تسهيلات للأطفال ذوي الإعاقة، بحجة أن ذلك كان "خيار الوالدين".
يدفع بعض الفلاسفة، مثل جوليان سافوليسكو، بأن على الوالدين "التزامًا أخلاقيًا لإنجاب أطفال يتمتعون بأفضل فرصة لحياة أفضل". ورغم جاذبية هذا المفهوم، إلا أنه قد يؤدي إلى إهمال قيم مهمة أخرى مثل التنوع. فالسعي لتعظيم قيمة واحدة قد يجعلنا نتجاهل مجموعة من القيم الأخرى. إن تأثير الذكاء الاصطناعي على مجالات متعددة، بما في ذلك الأخلاق والمجتمع، أصبح محور نقاشات واسعة.
الاكتفاء بالقدر المعقول ("Satisficing") في الفحص الجيني
يقترح المقال بديلاً منطقيًا لهذه المقاربة، وهو مفهوم "الاكتفاء بالقدر المعقول" (Satisficing)، أي اختيار الخيار "الجيد بما فيه الكفاية". ففي حالات الأمراض الخطيرة التي تسبب وهنًا شديدًا أو وفاة مبكرة، مثل مرض تاي ساكس أو طفرة BRCA التي تزيد من خطر الإصابة بالسرطان، فإن الفحص الجيني للوقاية منها يعد هدية عظيمة وقد يكون خيارًا حاسمًا.
أما بالنسبة للحالات التي قد تسبب معاناة ولكنها تتوافق أيضًا مع حياة سعيدة ومُرضية، مثل التوحد أو بعض حالات الصحة النفسية، فإن تغيير البيئة الاجتماعية وتوفير الدعم المناسب يمكن أن يكون بنفس أهمية التدخلات البيولوجية، ودون المخاطر المجتمعية المرتبطة بالفحص متعدد الجينات.
في النهاية، يختلف تحديد مفهوم "الحياة الجيدة بما فيه الكفاية" من والد لآخر، ويعتمد بشكل كبير على الموارد العاطفية والاجتماعية والمالية المتاحة للتعامل مع أي حالة صحية أو تنموية. ينبغي على الآباء مقاومة أي ضغوط أو إحراج قد يأتي من الجهات التي لديها دوافع ربحية، وأن يتخذوا القرارات التي تناسب أسرهم وظروفهم، مع إدراك أن الفحص الجيني يجب أن يوفر خيارات أكثر ويدعم الاستقلالية، لا أن يحد منها أو يفرض مسارًا واحدًا.

