الذكاء الاصطناعي واستهلاك الطاقة: هل نضحي بالكوكب من أجل التكنولوجيا؟
تحدي الطاقة للذكاء الاصطناعي: أزمة البنية التحتية
تفاقم أزمة الطاقة مع نمو الذكاء الاصطناعي
تواجه ثورة الذكاء الاصطناعي الواعدة تحديًا محوريًا يتفاقم باستمرار: الحاجة الماسة إلى بنية تحتية قوية للطاقة لدعم النمو المتسارع لهذه التقنية. ففي الوقت الذي تتنافس فيه الدول والشركات العالمية الكبرى على استغلال الإمكانات الهائلة للذكاء الاصطناعي تجاريًا واجتماعيًا، تبرز أزمة صامتة تتمثل في عجز شبكات الكهرباء الحالية عن تلبية الطلب الهائل والمتزايد على الطاقة.
مؤشرات عالمية على تفاقم الأزمة
تتضح هذه الأزمة في مشاريع عملاقة مثل مركز بيانات تيسوركس في شمال شرق إنجلترا، الذي يُتوقع أن يصبح الأكبر في أوروبا، وكذلك منشآت أمازون في إنديانا بالولايات المتحدة. وتشير خارطة طريق الحوسبة الجديدة للحكومة البريطانية إلى الحاجة إلى زيادة قدرة مراكز البيانات الجاهزة للذكاء الاصطناعي إلى 6 جيجاوات بحلول عام 2030، أي ثلاثة أضعاف القدرة الحالية، للحفاظ على تنافسيتها مع الأسواق الرائدة في مجال الذكاء الاصطناعي.
لكن هذا النمو المتسارع يكشف عن عدم تطابق جوهري. فبينما تتصاعد متطلبات الذكاء الاصطناعي للحوسبة بشكل هائل، تظهر اختناقات واضحة في شبكات الطاقة الوطنية. على سبيل المثال، اضطرت مشاريع الذكاء الاصطناعي والسحابة الجديدة في شمال فيرجينيا، وهي مركز سحابي عالمي كثيف، إلى التوقف بسبب نقص الكهرباء. وفي أيرلندا، تستهلك مراكز البيانات الآن أكثر من 20% من إجمالي الكهرباء في البلاد، مما دفع إلى اقتراحات بإنشاء خطوط طاقة خاصة بها. وفي المملكة المتحدة، يتم تخفيف قيود التخطيط على أبراج النقل الجديدة لتسريع ترقيات الشبكة.
هذه المشكلة ليست محصورة بمناطق معينة، بل هي ظاهرة عالمية ناتجة عن وضع عربة الذكاء الاصطناعي قبل حصان الطاقة. ومع عدم تباطؤ النمو المتفشي للذكاء الاصطناعي في أي وقت قريب، يجب أن ينصب التركيز على إيجاد حلول مبتكرة لتقليل متطلبات الطاقة، بالإضافة إلى توسيع سعة الشبكة الكهربائية القائمة.
الأرقام تتحدث: فجوة الطاقة والحلول المبتكرة
تؤكد البيانات والإحصائيات هذه الملاحظات؛ فقد أظهر مسح لشركة ديلويت أن 72% من المديرين التنفيذيين في قطاعي الطاقة ومراكز البيانات بالولايات المتحدة يرون أن سعة الطاقة تمثل تحديًا بالغًا نتيجة لانتشار الذكاء الاصطناعي، ويعتقد 82% منهم أن الابتكار، وليس مجرد توسيع الشبكة، هو الحل الوحيد الممكن. وتشير بلومبرج إنتليجنس إلى وجود فجوة تتراوح بين 12 إلى 24 شهرًا بين الوقت الذي تحتاج فيه مراكز البيانات إلى الطاقة والوقت الذي يمكن للشبكة توفيره، وهو تأخير يعيق نمو أسواق الذكاء الاصطناعي الرئيسية.
عقبات البنية التحتية الحالية وحلولها

المشكلة تقنية ومنهجية في آن واحد. فحتى عندما تتوفر الطاقة المتجددة، مثل طاقة الرياح من اسكتلندا، فإنها غالبًا لا تستطيع الوصول إلى مراكز البيانات التي تحتاجها بشدة، بسبب البنية التحتية للنقل المحدودة وغير الكافية. نحن نواجه معضلة؛ فالحاجة إلى المزيد من الطاقة ماسة، لكن الطاقة التي نولدها لا يمكن استخدامها دائمًا حيث تكون مطلوبة. ويزداد الأمر تعقيدًا بسبب أن أجهزة مراكز البيانات التقليدية ليست مصممة لتكون فعالة من حيث استهلاك الطاقة بالحجم الذي تتطلبه مهام الذكاء الاصطناعي الحالية كثيفة الموارد.
إعادة التفكير في البنية التحتية: حلول جذرية لمستقبل مستدام
الحل لا يكمن ببساطة في بناء المزيد من مراكز البيانات وتوسيع الشبكة بشكل متوازٍ، بل في إعادة التفكير في أساسيات البنية التحتية للحوسبة. هناك فجوة استثمارية ثلاثية الأبعاد تتطلب معالجة شاملة: نحن بحاجة إلى المزيد من مراكز البيانات، نعم، ولكن أيضًا إلى وصول أفضل للشبكة، وتسريع دمج الطاقة المتجددة، والأهم من ذلك، جيل جديد من الأجهزة الموفرة للطاقة داخل مراكز البيانات نفسها لتقليل البصمة الكربونية.
قانون مور، الذي دفع عقودًا من النمو الهائل في الحوسبة، يقترب من حدوده القصوى. يتطلب الذكاء الاصطناعي حلولًا أكثر جذرية وابتكارًا. يجب على الصناعة أن تتجه نحو تقنيات متقدمة مثل الحوسبة التناظرية، والرقائق العصبية، وخاصة البنيات المعتمدة على الضوء (الكلية الضوئية) التي تتجنب التحويلات المكلفة للطاقة في الشبكات الكهروضوئية الحالية. هذه الابتكارات لا تعد بمكاسب هامشية فحسب، بل بتغييرات جذرية في كفاءة الطاقة، مما يوفر الأداء المطلوب لمهام الذكاء الاصطناعي مع خفض كبير في الكهرباء المطلوبة لكل عملية حسابية.
مقياس جديد للتقدم: الكفاءة الأخلاقية للطاقة
في الوقت الحالي، نقيس تقدم الذكاء الاصطناعي بالمعايير التقليدية، والمعاملات، والفلوكات (عمليات النقطة العائمة في الثانية). لكن هذا مقياس خاطئ إذا تجاهلنا تكلفة الطاقة الهائلة لكل استدلال. يجب على الصناعة الآن إعطاء الأولوية لـ "الواط لكل مهمة" بقدر ما تعطي الأولوية لـ "الإكسا فلوبس" لضمان استدامة نمو الذكاء الاصطناعي.
هذا ليس مجرد تحدٍ هندسي، بل هو تحدٍ أخلاقي واجتماعي أيضًا: فبينما يصبح الذكاء الاصطناعي محوريًا في مجالات تتراوح من الرعاية الصحية إلى علوم المناخ، فإن النمو غير المنضبط في الطلب على الطاقة يهدد كوكب الأرض وثقة الجمهور في الفوائد التحويلية للذكاء الاصطناعي.
نداء للعمل: مستقبل مستدام للذكاء الاصطناعي
إن حل تحدي الطاقة ليس خيارًا، بل هو ضرورة وجودية لصناعة الذكاء الاصطناعي. تحذر الوكالة الدولية للطاقة (IEA) من أن الطلب على الكهرباء من مراكز البيانات في جميع أنحاء العالم سيتضاعف بأكثر من الضعف بحلول عام 2030، مع كون الذكاء الاصطناعي في صميم هذا الارتفاع. وتشير تقديرات الوكالة الدولية للطاقة (IEA) إلى أن مراكز البيانات استهلكت حوالي 415 تيراواط/ساعة (TWh) في عام 2024، ومن المتوقع أن تصل إلى 945 تيراواط/ساعة بحلول عام 2030، وهو ما يعادل تقريبًا استهلاك اليابان السنوي الحالي من الكهرباء بأكملها. المصدر: IEA. كما يتوقع تقرير من IDC أن استهلاك الطاقة لمراكز بيانات الذكاء الاصطناعي سينمو بمعدل نمو سنوي مركب قدره 44.7%، ليصل إلى 146.2 تيراواط/ساعة بحلول عام 2027، مع استهلاك أعباء عمل الذكاء الاصطناعي نسبة متزايدة من إجمالي استخدام الكهرباء في مراكز البيانات. المصدر: IDC. بدون تحول نحو بنية تحتية أكثر ذكاءً وكفاءة، فإننا نخاطر بالضرر البيئي وتباطؤ الإمكانات التحويلية للذكاء الاصطناعي.
يتنبأ الخبراء كل أسبوع بنمو هائل للذكاء الاصطناعي وما يصحبه من إجهاد بيئي متزايد. الإجابة ليست في إبطاء التقدم التكنولوجي، بل في تسريع الاستثمار في التقنيات المبتكرة التي يمكنها كسر الارتباط بين توسع الذكاء الاصطناعي واستهلاك الطاقة. هذا نداء للعمل للصناعة بأكملها، للقادة التقنيين، وصناع السياسات، والباحثين للتعاون على وضع معايير عالمية للكفاءة، ودعم الأبحاث الرائدة في الأجهزة الموفرة للطاقة، وضمان تصميم بنية تحتية المستقبل لتلبية متطلبات الحاضر والمستقبل المستدام.
السؤال لم يعد ما إذا كان الذكاء الاصطناعي سيغير العالم، بل ما إذا كان لدينا العالم القادر على استدامة صعود الذكاء الاصطناعي. حان الوقت للاستثمار في أسس أكثر ذكاءً، وليس فقط أكبر، لتحقيق مستقبل مستدام للذكاء الاصطناعي.