رواتب الذكاء الاصطناعي تتجاوز رواتب أوبنهايمر وأرمسترونج: هل نشهد حقبة جديدة من الثروة؟
تعويضات الذكاء الاصطناعي: أرقام فلكية تتجاوز أهم الإنجازات البشرية
تعويضات غير مسبوقة: في خضم حرب المواهب الشرسة التي يشهدها وادي السيليكون في مجال الذكاء الاصطناعي، وصلت التعويضات المالية إلى مستويات غير مسبوقة، جاعلةً أضخم الإنجازات العلمية في الماضي تبدو متواضعة من الناحية المالية. فقد عرضت شركة "ميتا" مؤخراً على باحث الذكاء الاصطناعي، مات ديتكي، مبلغ 250 مليون دولار على مدى أربع سنوات (بمتوسط 62.5 مليون دولار سنوياً)، مع إمكانية حصوله على 100 مليون دولار في السنة الأولى وحدها. هذا العرض حطم جميع السوابق التاريخية للتعويضات في المجالات العلمية والتقنية، بما في ذلك الرواتب التي دُفعت خلال تطوير أعظم الإنجازات العلمية في القرن العشرين.
خبرة ديتكي: وقد ذكرت صحيفة "نيويورك تايمز" أن ديتكي شارك في تأسيس شركة ناشئة تدعى "فيرسيبت"، وقاد سابقاً تطوير نظام "Molmo"، وهو نظام ذكاء اصطناعي متعدد الوسائط في معهد ألن للذكاء الاصطناعي. خبرته العميقة في الأنظمة التي تدمج بين الصور والأصوات والنصوص، والتي تُعرف بـ الذكاء الاصطناعي متعدد الوسائط (Multimodal AI)، جعلته هدفاً رئيسياً لشركات التكنولوجيا الكبرى. ولم يكن ديتكي الوحيد؛ فقد أفادت تقارير بأن مارك زوكربيرج، الرئيس التنفيذي لشركة "ميتا"، عرض على مهندس ذكاء اصطناعي آخر لم يُكشف عن اسمه، مليار دولار كتعويض يُدفع على مدى عدة سنوات.
الرهان على الذكاء الاصطناعي العام: تعكس هذه المبالغ الفلكية حجم الرهان الذي تضعه شركات التكنولوجيا على المحك: سباق محموم لإنشاء الذكاء الاصطناعي العام (AGI) أو الذكاء الخارق (Superintelligence)، وهي آلات قادرة على أداء المهام الفكرية بمستوى يوازي البشر أو يتجاوزه. يمثل الذكاء الاصطناعي العام (AGI) نظاماً افتراضياً يمتلك القدرة على فهم وتعلم وتطبيق المعرفة بمرونة في مختلف المجالات، تماماً كالإنسان. أما الذكاء الخارق (ASI)، فهو مستوى أكثر تقدماً، حيث يتفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى العقول البشرية في كل المجالات تقريباً. تراهن "ميتا" و"جوجل" و"أوبن إيه آي" وغيرها على أن من يحقق هذا الإنجاز أولاً سيتمكن من السيطرة على أسواق تُقدر قيمتها بتريليونات الدولارات. وسواء كانت هذه الرؤية واقعية أم مجرد دعاية، فإنها تدفع بتعويضات المواهب إلى مستويات غير مسبوقة.
مقارنة تاريخية: أوبنهايمر: لوضع هذه الرواتب في سياقها التاريخي، كان راتب ج. روبرت أوبنهايمر، الذي قاد "مشروع مانهاتن" الذي ساهم في إنهاء الحرب العالمية الثانية، حوالي 10,000 دولار سنوياً في عام 1943. بعد تعديل هذا المبلغ وفقاً للتضخم، فإنه يعادل حوالي 190,865 دولاراً بالأسعار الحالية، وهو ما يتقاضاه مهندس برمجيات رفيع المستوى اليوم. بالمقابل، فإن ديتكي، البالغ من العمر 24 عاماً والذي ترك مؤخراً برنامج الدكتوراه، سيكسب ما يقرب من 327 ضعف ما كان يكسبه أوبنهايمر أثناء تطوير القنبلة الذرية.
سباق الفضاء: حتى رواتب "سباق الفضاء" كانت أقل تكلفة بكثير. يقدم "برنامج أبولو" مقارنة مذهلة أخرى؛ فقد كان نيل أرمسترونج، أول إنسان يمشي على سطح القمر، يتقاضى حوالي 27,000 دولار سنوياً، أي ما يعادل 244,639 دولاراً بالأسعار الحالية. أما زميلاه باز ألدرين ومايكل كولينز، فكانا يتقاضيان أقل من ذلك، حيث كانا يكسبان ما يعادل 168,737 دولاراً و155,373 دولاراً على التوالي بالأسعار الحالية. أما رواد الفضاء الحاليون في وكالة "ناسا"، فتتراوح رواتبهم بين 104,898 دولاراً و161,141 دولاراً سنوياً. بهذا المعدل، سيكسب باحث الذكاء الاصطناعي في "ميتا" خلال ثلاثة أيام فقط أكثر مما كسبه أرمسترونج في عام كامل مقابل تحقيقه "خطوة عملاقة للبشرية".
لماذا يختلف سوق مواهب الذكاء الاصطناعي؟
أسعار المواهب التقنية: ليست هذه المرة الأولى التي تصل فيها أسعار المواهب التقنية إلى مستويات باهظة. ففي عام 2012، عرض ثلاثة أكاديميين من جامعة تورنتو أبحاثهم في مجال الذكاء الاصطناعي على "جوجل" مقابل 44 مليون دولار (حوالي 62.6 مليون دولار بالأسعار الحالية). وبحلول عام 2014، كان أحد المديرين التنفيذيين في "مايكروسوفت" يقارن رواتب باحثي الذكاء الاصطناعي بعقود لاعبي كرة القدم الأمريكية. لكن الأرقام الحالية تفوق حتى تلك السوابق.
عوامل الارتفاع: تفسر عدة عوامل هذا الارتفاع غير المسبوق في التعويضات. نحن نشهد تركيزاً صناعياً للثروة لم يسبق له مثيل منذ "العصر الذهبي" في أواخر القرن التاسع عشر. وعلى عكس المساعي العلمية السابقة، يضم سباق الذكاء الاصطناعي اليوم شركات تقدر قيمتها بتريليونات الدولارات تتنافس على مجموعة مواهب محدودة للغاية. فعدد قليل فقط من الباحثين يمتلك الخبرة الدقيقة اللازمة للعمل على أنظمة الذكاء الاصطناعي الأكثر تطوراً، خاصة في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي متعدد الوسائط، وهو مجال تخصص ديتكي. بالإضافة إلى ذلك، فإن الضجة الإعلامية حول الذكاء الاصطناعي باعتباره "الشيء الكبير التالي" في عالم التكنولوجيا قد بلغت ذروتها.
الجانب الاقتصادي: كما تختلف الجوانب الاقتصادية بشكل جوهري عن المشاريع السابقة. فقد بلغت تكلفة "مشروع مانهاتن" 1.9 مليار دولار إجمالاً (حوالي 34.4 مليار دولار بعد التعديل حسب التضخم)، بينما تخطط "ميتا" وحدها لإنفاق عشرات المليارات سنوياً على البنية التحتية للذكاء الاصطناعي. وبالنسبة لشركة تقترب قيمتها السوقية من 2 تريليون دولار، فإن العائد المحتمل من تحقيق إنجاز الذكاء الاصطناعي العام أولاً يتجاوز بكثير حزمة تعويضات ديتكي. وقد صرح أحد المديرين التنفيذيين بصراحة لصحيفة "نيويورك تايمز": "إذا كنت زوكربيرج وتنفق 80 مليار دولار في عام واحد على النفقات الرأسمالية وحدها، فهل يستحق الأمر إضافة 5 مليارات دولار أو أكثر لاكتساب فريق عالمي حقيقي لنقل الشركة إلى المستوى التالي؟ الإجابة هي نعم بالتأكيد."
مكافآت البحث: يحتفظ الباحثون الشباب بمجموعات دردشة خاصة على منصات مثل "سلاك" و"ديسكورد" لمشاركة تفاصيل العروض واستراتيجيات التفاوض، بل ويستأجر البعض وكلاء غير رسميين. ولا تقتصر العروض على حزم ضخمة من النقد والأسهم فحسب، بل تشمل أيضاً موارد حاسوبية هائلة. ذكرت "نيويورك تايمز" أن بعض المرشحين المحتملين قيل لهم إنهم سيحصلون على 30,000 وحدة معالجة رسومات (GPUs)، وهي الرقائق المتخصصة التي تدعم تطوير الذكاء الاصطناعي.
سباق التسلح: تعتقد شركات التكنولوجيا أنها منخرطة في سباق تسلح يمكن للفائز فيه إعادة تشكيل الحضارة. على عكس "مشروع مانهاتن" أو "برنامج أبولو"، اللذين كان لهما أهداف محددة ومحدودة، فإن سباق الذكاء الاصطناعي العام ليس له سقف واضح. فآلة يمكنها أن تضاهي الذكاء البشري يمكنها نظرياً أن تحسن نفسها، مما قد يؤدي إلى ما يسميه الباحثون "انفجاراً ذكائياً"، والذي يمكن أن يقدم اكتشافات متتالية، إذا تحقق ذلك بالفعل.
الخاتمة: سواء كانت هذه الشركات تبني التكنولوجيا النهائية التي ستحل محل العمالة البشرية أو مجرد أنها تطارد موجة من الدعاية، فإن هذا يظل سؤالاً مفتوحاً. لكننا بالتأكيد قطعنا شوطاً طويلاً من بدل يومي قدره 8 دولارات كان يتلقاها نيل أرمسترونج في مهمته إلى القمر – أي حوالي 70.51 دولاراً بالأسعار الحالية – قبل خصم تكاليف "الإقامة" التي قدمتها "ناسا" على متن المركبة الفضائية. وبعد أن قبل ديتكي عرض "ميتا"، مازحت كيانا إحساني، الشريكة المؤسسة لـ"فيرسيبت"، على وسائل التواصل الاجتماعي قائلة: "نتطلع إلى الانضمام إلى مات في جزيرته الخاصة العام المقبل."